فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم} مسبب عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا} بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت الهمزة بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول فعكستم بأن كذبتم ويحتمل أن يكون ابتداء كلام والفاء للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد الفاء فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل {أَكْفَرْتُمْ النعمة عَنِ الهوى} فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضى أنه لو كان كذلك لجاز وقوع الهمزة في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفًا عليه ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة بالواو، أو الفاء، أو ثم في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع على هذا وفي البعض على ذلك بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام والقلب يميل إليه قيل: ولا يلزم بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخيًا أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة وتهوى من هوي بالكسر إذا أحب، ومصدره هوى بالقصر، وأما هوى بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره هوى بالضم وأصله فعول فأعل.
وقال المرزوقي: هوى انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد، وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي هويًا بفتح الهاء إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هويًا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى وما ذكرناه أولا هو المشهور والهوى يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية.
وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق {استكبرتم} محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلًا، واستفعل هنا بمعنى تفعل.
{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} الظاهر أنه عطف على {استكبرتم} والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفًا على {وأيدناه} ويكون {أَفَكُلَّمَا} مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم {فَرِيقًا} في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثمّ محذوف أي: فريقًا منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارًا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض.
والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلابد من التعميم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}.
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل، ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الآية.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}.
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبيّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.
والذي يظهر في الجواب عن هذا أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل الله، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة، ولايرد على هذا الجمع قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآية.
أما على قراءة {قُتِلَ} بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: {رِبِّيُّونَ}لا ضمير نبي وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرهم بالحجة والبرهان فلا إشكال في الآية. والله أعلم. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل فريق أكثر ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأُمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة. اهـ.

.قال في الميزان:

قوله تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} الفاء للتفريع، والسؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، أي: لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقًا وصدقًا، فلم تقتلون أنبياء الله، ولم كفرتم بموسى باتخاذ العجل، ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور: سمعنا وعصينا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} الآية (87).
الإشارة: أوصلنا لهم الخطاب، وأردفنا رسولًا بعد رسول، والجميع دَعَوْا إلى واحد. ولكنهم أضغَوْا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قَبلُوه، وما استثقلته أهواؤهم جحدوه، فإذا كان الهوى صفتهم ثم عبدوه، صارت للمعبود صفات العابد، فلا جَرَمَ الويل لهم ثم الويل!. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب}.
إن قلت: الخطاب لليهود وهم معترفون بنبوة موسى عليه السلام فما فائدة القَسم على ذلك؟
قلنا: فائدته التنبيه على مساواة غيره من الرسل الآتين بعده له في النبوة، وأن نبوتهم حق كما هي نبوة موسى عندهم حق.
قال ابن عرفة: وهذه معجزة للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القاعدة أن من ادّعى أمرا محالا لم يسمع منه، وإن ادعى أمرا ممكنا سمع منه وطلب بالدّليل على صحّته.
والدليل قسمان: جدلي برهاني للخواص، ودليل للعوام، فبين لهم أولا أنه ادّعى أمرا ممكنا، واستدلّ عليه لهم بدليل برهاني خاص بالخواص، ثم استدلّ لهم الآن بالدليل الّذي يفهمه العوام، وهو أنّه إنّما ادّعى أمرا تكرر أمثاله قبله فلم يأتكم بأمر غريب فهو ممكن عقلا، واقع أمثاله بالمشاهدة، فحقكم أن تنظروا في معجزته فتؤمنوا به.
فإن قلت: ما أفاد {مِن بَعْدِهِ} مع أنّ القبلية تفيد معنى البعدية؟
قلت: لإفائدة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى.
وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد ممن تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء.
فإن قلت: لِم خصّص عيسى بذكر الآيات البينات؟
قلنا لوجهين: إما لأنه بَشّر بنبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} واستظهر على صحة قوله بمعجزات واضحات، وإمّا لأنّ الخطاب لليهود وهم كافرون بعيسى، فمعناه أرسلنا من بعده موسى رسلا، منهم عيسى ورسالته، قام الدليل على صحتها، وأنها نسخت شريعة نبيكم موسى عليه الصلاة والسلام فكذلك هذه الرسالة.
قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُكُمُ}.
قال ابن عرفة: هذا نهي عليهم، ومبالغة في ذمّهم، لأن ما لا تهواه النفس أعمّ مما تكرهه النّفس، والمعنى أنهم مهما أتاهم رسول من عند الله تعالى بأمر لا يحبونه سواء كانوا يكرهونه أو لا، فإنّهم يستكبرون ويكفرون به ونظيره قوله تعالى في سورة العقود: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} ولم يقل: ومن حكم بغير ما أنزل الله، فيتناول من ترك الحكم ولم يحكم بشيء، لأن الفصل بين المسلمين بالحق واجب.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: لم قال: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} بالماضي {وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} بالمضارع؟ وأجاب بان التكذيب في أفراد متعلقاته كله ماض، والقتل في بعض آحاد متعلقاته مستقبل، لأنهم كانوا يحبون أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أهدت له يهودية في خيبر شاة مصلية وسمت فيها الذراع، لأنه كان صلى الله عليه وسلم يحبه، وأخبره الذراع بالسم بعد أن لاكه في فيه، ثم ألقاه منه، ثم قال عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي انتقل فيه إلى الفردوس الأعلى: ما زالت من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري.
ولهذا يقال: إن النبي صلى الله عليه مات شهيدا. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}.
انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة، ومن رغبة ورهبة، ثم جاء عيسى مؤيدًا وناسخًا ومبشرًا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءَهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح.
وإن قومًا هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أُولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لِمَا تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطًا بقوله: {وآمنوا بما أنزلت مصدقًا} [البقرة: 41] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى: {وقالوا قلوبنا غُلف} [البقرة: 88].
فقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} تمهيد للمعطوف وهو قوله: {وقفَّينا من بعده بالرسل} الذي هو المبني عليه التعجب في قوله: {أفكلما جاءكم رسول} فقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب} تمهيد التمهيد وإلا فهو قدعُلم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالًا هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضًا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
وقفى مضاعف قفا تقول قفوت فلانًا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهومن الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورًا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدًا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقًا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا: قفَّى زيدًا بعمرو عوض أن يقولوا: قفى زيدًا عمرًا.
فمعنى {قفينا من بعه بالرسل} أرسلنا رسلًا وقد حذف مفعول {قفينا} للعلم به وهو ضمير موسى.
وقوله: {من بعده} أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب (الكشاف) أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرًا دل على التكثير مجازًا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي.
وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلًا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارًا بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفًا شرعيًا وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلًا ولا تفريعًا.
وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر: لابد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى: {وإن إلياس لمن المرسلين} [الصافات: 123] وقال: {وإن يونس لمن المرسلين} [الصافات: 139] وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئًا قليلًا وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضًا خصه بقوله: {وأيدناه بروح القدس} ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.
وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبًا مكانيًا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينًا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينًا مهملة فلله فصاحة العربية.
ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.
ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأةٌ مريمٌ أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤبة:
قلت لزيرٍ لم تزره مريمه

فليس هو مشتقًا من رام يريم كما قد يتوهم.
وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادرًا.
وعيسى عليه السلام هوابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا.
ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيرودس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرية المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولًا إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثًا وثلاثين سنة.
وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهنًا من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران.
والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات، {وأيدناه} قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقًا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل.
والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} [ص: 17] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقًا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال (62) قوله؛ {وهو الذي أيدك بنصره}.
والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله: {فنفخنا فيها من روحنا} [التحريم: 12]، ويطلق على جبريل كما في قوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 193، 194] وهو المراد في قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4] وقوله: {يوم يقوم الروح والملائكة} [النبأ: 38].
والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة.
والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30].
وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكوّن منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدًا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي أجلها» وعلى كلا الوجهين فإضافة روح إلى القدس إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفًا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتازاني في (شرح الكشاف) وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون في الوصف بالمصدر.
وقوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول} هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله: {ولقد آتينا} تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.
وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطًا على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان: إحداهما طريقة الجمهور قالوا: همزة الاستفهام مقدمة من تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالًا فيه، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل أين، ومنها حرف تحقيق وهو هل فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب، وقيل: أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفًا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.
الطريقة الثانية طريقة صاحب (الكشاف) وفي (مغني اللبيب) أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ.
وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفًا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما.
والظاهر من كلام صاحب (الكشاف) في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران [165]: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75] {أفلا تعقلون} [البقرة: 44].
{أفتؤمنون ببعض الكتاب} [البقرة: 85] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا.
وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى: {أثم إذا ما وقع آمنتم به} في سورة يونس (51) وقوله النابغة:
أثم تَعذَّران إلى منها ** فإني قد سمعتُ وقد رأيتُ

وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.
ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله: {أفكلما}، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرًا معطوفًا على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة {آتينا موسى الكتاب} إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها.
وانتصب كلما بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله: {استكبرتم}، وقدم الظرف ليكون مواليًا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في كلما على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها.
و{تهوى} مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.
والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعًا لهم، فالسين والتاء في {استكبرتكم} للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى: {إلا إبليس أبى واستكبر} [البقرة: 34] وقوله: {ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون} مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقًا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقًا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفًا ولولا رهطك لرجمناك} [هود: 9].
وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى: {فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة} [الأعراف: 30].
وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولًا لفعل في مقام التقسيم نحو {يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} [آل عمران: 159].
والتفصيل راجع إلى ما في قوله: {رسول} من الإجمال لأن {كلما جاءكم رسول} أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارًا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر وحين أَمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزَكرياء ويحيى ابنه وأرمياء.
وجاء في {تقتلون} بالمضارع عوضًا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه} [الروم: 48] مع ما في صيغة {تقتلون} من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم. اهـ.